الإسلام عمل ومعاملة 19215


الإسلام عمل ومعاملة

الإسلام عمل ومعاملة
الجوكر عمرو مجدى الشناوى
المسلم متعبد في المسجد والشارع والبيت، ولا فرق بين كونه راكعا لله أو بائعا أو شاريا أو محسنا للناس أو متصدقا على الفقراء والمحتاجين، فهو في كل هؤلاء يعبد الله عبادة مجزيا بها كما تجزيه الصلاة "فالدين المعاملة" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالعبادة في الإسلام تربط الفرد بخالقه بمقدار ما يكون قد ارتبط بالمجتمع والبيئة المحيطة به. فهذا من صميم المعاملات الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام، فهي عبادات ومعاملات كأنما التنظيم الاجتماعي للإسلام يهتم بسلوك الفرد وسيره المتناسق مع الجماعة باعتبارهما وجهي عملة واحدة في الحياة. فالمتتبع للقرآن الكريم يفهم من خلاله كيف رسم الموقف الاجتماعي للفرد في الإسلام، فقد اقترنت عبادة الله كمفهوم شامل بالوقف الايجابي نحو المجتمع، يبتدئ بالأسرة أصلا وفرعا وقرابة، وباليتامى والمساكين والجار ذي الجنب والقربى والآخرين الذين لا يشاركون المسلم عقيدته، ثم تتسع الدائرة لتشمل الإحسان لأولئك الذين نعايشهم الحياة ونزاملهم السفر، فهؤلاء الصاحب بالجنب ممن لا قرابة ولا جوار. وكذلك المجتاز في البلد والسائح فيه فهو ابن السبيل وهو أحق بالرعاية ومد يد العون إليه. والإحسان بما نعرفه يشمل كل موقف يستحسنه المجتمع ما كان منه إخلاصا في العمل وتعاونا بين الناس أو تواصلا ومساعدة بالمال للذي به حاجة إليه في كل الأوقات ومختلف الأماكن. ونجد في آيات القرآن الكريم كذلك انتقادا للأنانية والانطوائية واستنكر من ينادي بها، فهذه بخل وشح من الإنسان، إلا أنه إذا كان ذلك شرا فالرياء والتفاخر شر أكبر، فالقرآن يحارب كل هذه المظاهر المقيتة وهي ليست من الإسلام في شيء. والموقف الايجابي من المجتمع الإسلامي هو توضيب كل الطاقات الاجتماعية في التحول إلى الإنتاج ونبذ الاعتماد على الغير في كسب لقمة العيش، لذا حث الإسلام في كثير من المواقف على استغلال كل الموارد البشرية والاقتصادية في تنمية المجتمع، قال تعالى في سورة الملك Sadهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)" الآية 15". وهذا دليل واضح على حرية استغلال كافة موارد الحياة في سبيل الحصول على الرزق وقد لاحظ المفسرون استعمال المناكب، أي الأكتاف في هذا المقام، باعتبارها أصعب الأماكن ركوبا من الدابة، أخذين من ذلك وجوب البحث عن الموارد في أشد الأماكن وعورة كيلا يفوت المجتمع كسب من الحياة واستغلال كل الوجوه المتاحة. وقد ابتدأ الإسلام بالعمل، لأنه الوسيلة الأولى في تحصيل الكسب، ورفعة المقام وجعله خلق الأنبياء والمرسلين : ففي الحديث الشريف "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". ثم كره إلى مجتمع العالة، عليه يستغني بالصلاة عن العمل فيكفيه الناس طعامه وشرابه، وقال النبي للذين يكفونه العيش "كلكم خير منه" ونهي عن المسألة أي طلب العطاء واعتبرها ذلة للسائل من حيث كرمه الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". كما جعل الأرض يحييها لإنسان بعمله ملكا لمن أحياها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ومن أحيا أرضا مواتا فهي له"، دليلا على وجوب إحياء الأرض البور. أما بالنسبة إلى مسؤولية المجتمع حيال الأفراد، فإنها تبدو نتيجة للمسؤولية الأولى، مسؤولية الفرد تجاه المجتمع، فلولا أن الإنسان ملزم بالموقف الايجابي من الناس ما كان المجتمع بقادر على تحقيق الأمن لأهله ورفع راية الحضارة. وقد تجلى هذا التلازم بين المسؤوليتين في المفهوم الإسلامي بفرض الكفاية وهو الفرض الذي يتحمله كل فرد من أفراد الجماعة فإذ1ا قام به بعضها سقط عن الباقين، فهو من ناحية مسؤولية فردية تلزم كل فرد، إلا أنها من ناحية أخرى مسؤولية الجماعة بالنسبة إلى ما أمرت به، لو قام به البعض تحقق المقصود وسقطت عن بقية الأفراد. ونمثل لذلك بأهل الحي يكون فيهم جائع، فلو مات هذا الجائع من شدة الجوع أثم جميع أهل الحي بل برئت منهم ذمة الله ورسوله كما جاء في الحديث الشريف. أما لو قام بعض أهل الحي بتعهد ذلك الجائع ارتفع الإثم عن سائر أفراده. لذلك نرى القرآن الكريم يحض على الإنفاق في سبيل الله، وإنفاق المال على وجهه سرا وعلانية، والتحري عن المحرومين والمحتاجين في المجتمع وبذل الجهد وتقديم يد المساعدة لهم . ولقد عهد الإسلام لبناء هذه الدولة في ضمير المسلم، إذ جعل طاعة الإمام من طاعة الله، وغدا ذلك الانسجام النفسي والروحي لسلطة الدولة مشجعا على ربط حرية الأفراد بمصلحة الجماعة، فلقد حدد الإسلام مفهوم الحرية الشخصية في الإسلام بأنها مطلقة ما لم تعارض بالحق أو بالخير، وعلى هذا الأساس كانت مواقف الخلفاء الراشدين والدولة الإسلامية في السياسة العادلة، وبدا من نتائج ذلك إجراءات أملتها رغبة الإسلام في إعادة التوازن بين طبقات المجتمع حتى لا يكون المال : (دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ)"سورة الحشر الآية 7"، أي متداولا محصورا كما جاء في التعبير القرآني. والواقع أن الإسلام قد أعطى الدولة تفويضا مداه المصلحة العامة، وتحقيق التضامن الاجتماعي، وتناول هذا التفويض ملكية الأفراد باعتبار الملكية إطار التنظيم الاجتماعي، وقد اشتملت آيات عديدة على تحديد التصرف بالمال تحديدا يتلاءم مع المصلحة العامة للمجتمع، لأن المال مال الله والإنسان فيه مستخلف، مصداقا للآية الكريمة من سورة الحدي: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)"من الآية7". روى الصحابي أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، قال أبو سعيد فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أن لاحق لأحد منا في فضل". ومن وسائل التضامن الاجتماعي التي اختارها الإسلام "الزكاة"، لأنها ركن بارز من أركان الإسلام الخمسة، والزكاة تشمل الأموال القابلة للنماء، فالمال الذي يمكن أن يدخل في التنمية الاقتصادية هو الذي تجب عليه الزكاة كلما حال عليه الحول وبلغ النصاب. وقد أوجب الإسلام على الدولة جمعها من الأفراد زيادة عن نصاب معين حدد لكل نوع من المال، ففي الذهب والفضة وسائر المعادن والأموال ربع العشر، وفي المواشي على اختلافها تفريق بين الغنم والإبل والبقر، فلكل منها نصاب ومقداره يطول شرحه لو فصلناه، كذلك الزروع فقد فرقوا بين التي تسقى بالماء والقنوات وتلك البعلية التي تسقى بماء المطر، فجعل في الأولى نصف العشر والثانية العشر زكاة عند كل موسم. والزكاة كما أسلفنا تدبير وتخطيط لإعادة التوازن بين طبقات المجتمع، باعتبار أن التضامن الاجتماعي يفرض حدا أدنى لمعيشة الإنسان، فضلا عن حركة الأموال تفيء بأرباح قد تكون كبيرة، وهذه نتاج الحركة الجماعية من عامل ومنتج يعتمد على نفسه أو مع جماعة أو في قطاع عام يهم المجتمع بأسره، ففي هذا المال حق لبعض فئات المجتمع، فهؤلاء الذين عملوا فيه إلا أن إنتاجهم لا يحقق الكفاية لمعاشهم، فالمسكين والفقير هما هؤلاء في مفهوم الإسلام. والزكاة فوق كل ذلك عبادة، فهي تزكية وتطهير للنفس من البخل والشح وتزكية للمال كي ينمو ويزيد. وقد جاء في القرآن الوجوه التي تصرف فيها الزكاة : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)"سورة التوبة الآية60"، فالفقراء والمساكين ليسوا من تردهم اللقمة واللقمتان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أولئك الذين يساهمون في الإنتاج، ولا يكون لهم منه حظ يكفيهم، فهؤلاء لهم نصيب من الزكاة تعطى لهم لسد حاجاتهم وإبعادهم عن ذل السؤال. وتأكيدا لهذا المعنى اعتبرت الشريعة الغارمين الذين أغرقهم الدين ولم يستطيعوا له الوفاء، الحق في الزكاة لوفاء ديونهم تحقيقا للتوازن بين الجهد اليومي والكفاية، لذلك اشترط العلماء لوفاء الدين للغارم أن يكون قد ترتب عليه فيما يبقى من السعي الحلال والكسب الطيب. وكذلك المسافر وعابر السبيل له الحق في الزكاة لاعتبارات إنسانية واجتماعية، إذ في تأمين مثل هؤلاء تعريف بآداب الإسلام وسلوكه الاجتماعي. ثم كان من مصارف الزكاة ما هو متروك للمصلحة العامة وتأمين مرافقها من طرق ومنشأت تعود أهميتها للصالح العام، فذلك ما يدخل في سبيل الله. وقد اعتبر الإسلام القادر على الإنتاج والعمل ولا يعمل غير مستحق للزكاة، كما ورد ذلك في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم : "لاتحل الصدقة لغني ولالذي مرة سوى". إلا أنه لم يفرق في صرف الزكاة على مستحقيها بين منحرف ضال وسوي مهتد باعتبار أن الكفاية حق للإنسان في المجتمع، وربما كانت سبيل تقويم وتهذيب. والدولة لها سلطة عليا في مصادرة الأموال إذا اكتسبها صاحبها باستغلال الوظيفة، وهذا يعتبر من صميم العدالة الاجتماعية، إذ في اسغلال المناصب والوظائف اختلال بموازين المجتمع، وسرقة للمال العام وهذا ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول : هذا لكم وهذا اهدي إليّ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا".